ما زلت أذكر قولك ذات يوم :
"الحب هو ما حدث بيننا. والأدب هو كل ما لم يحدث".
يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول :
هنيئا للأدب على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث .
إنها تصلح
اليوم لأكثر من كتاب .
وهنيئا للحب أيضا ...
فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم يحدث... ما أجمل
الذي
لن يحدث .
قبل اليوم, كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا
عندما
نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون أن نتألم مرة
أخرى .
عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون حقد
أيضا .
أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا أيضا .
- أتريد قهوه ؟
يأتي صوت عتيقة غائبا, وكأنه يطرح السؤال على شخص غيري .
معتذرا دون اعتذار, على وجه للحزن لم أخلعه منذ أيام .
يخذلني صوتي فجأة ...
أجيب بإشارة من رأسي فقط .
فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها
إبريق،
وفناجين, وسكريه, ومرشّ لماء الزهر, وصحن للحلويات .
في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان, وضعت جواره مسبقاً
معلقه
وقطعة سكر .
ولكن قسنطينة مدينه تكره الإيجاز في كل شيء .
إنها تفرد ما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. وتقول
كل ما
تعرف .
ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة .
أجمع الأوراق المبعثرة أمامي , لأترك مكاناً لفنجان القهوة
وكأنني
أفسح مكانا لك ..
بعضها مسودات قديمة, وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ أيام بعض
الكلمات
فقط... كي تدب فيها الحياة, وتتحول من ورق إلى أيام .
كلمات فقط, أجتاز بها الصمت إلى الكلام, والذاكرة إلى
النسيان, ولكن
..
تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك .
فكرت في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المرّة . ولحظتها فقط,
شعرت
أنني قادر على الكتابة عنك فأشعلت سيجارة عصبيّة, ورحت أطارد دخان
الكلمات
التي أحرقتني منذ سنوات, دون أن أطفئ حرائقها مرة فوق صفحه .
هل الورق مطفأة للذاكرة؟
نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين الأخيرة , وبقايا الخيبة
الأخيرة. .
من منّا يطفئ أو يشعل الآخر ؟
لا ادري ... فقبلك لم اكتب شيئا يستحق الذكر... معك فقط سأبدأ
الكتابة.
ولا بد أن أعثر أخيراً على الكلمات التي سأنكتب بها, فمن حقي
أن
أختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي أختر تلك القصة .
قصه كان يمكن أن لا تكون قصتي, لو لم يضعك القدر كل مره
مصادفه, عند
منعطفات فصولها .
من أين جاء هذا الارتباك؟
وكيف تطابقت مساحة الأوراق البيضاء المستطيلة, بتلك المساحة
الشاسعة
البياض للوحات لم ترسم بعد.. وما زالت مسنده جدار مرسم كان مرسمي ؟
وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها الألوان. وتحول العالم
إلى
جهاز تلفزيون عتيق, يبث الصور بالأسود والأبيض فقط ؟
ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض أفلام السينما الصامتة .
كنت أحسدهم دائماً, أولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين
الرسم
والكتابة دون جهد, وكأنهم ينتقلون من غرفه إلى أخرى داخلهم. كأنهم
ينتقلون
بين امرأتين دون كلفة ..
كان لا بد ألا أكون رجلا لامرأة واحدة !
ها هوذا القلم إذن.. الأكثر بوحا والأكثر جرحا ً.
ها هو ذا الذي لا يتقن المراوغة , ولا يعرف كيف توضع الظلال
على
الأشياء . ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرحة .
وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما أردتها , موجعه
كما
أردتها , فَلِمَ رعشة الخوف تشلّ يدي , وتمنعني من الكتابة؟
تراني أعي في هذه اللحظة فقط ، أنني استبدلت بفرشاتي سكيناً.
وأن
الكتابة إليك قاتله.. كحبك .
ارتشفت قهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المرّة. شعرت أنني على
وشك أن
اعثر على جمله أولى, ابدأ بها هذا الكتاب .
جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة .
كأن أقول مثلا :
"أكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت أشبهها. ما زالت
الطيور
تعبر هذه الجسور على عجل, وأنا أصبحت جسرا آخر معلقاً هنا.
لا تحبي الجسور بعد اليوم..".
أو شيئا آخر مثل :
" أمام فنجان قهوة ذكرتك ..
كان لا بد أن تضعي ولو مرة قطعة سكر في قهوتي . لماذا كل هذه
الصينية.. من أجل قهوة مرّة..؟".
كان يمكن أن أقول أي شيء ...
ففي النهاية, ليست الروايات سوى رسائل وبطاقات, نكتبها خارج
المناسبات المعلنة.. لنعلن نشرتنا النفسية, لمن يهمهم أمرنا .
ولذا أجملها, تلك التي تبدأ بجمله لم يتوقعها من عايش طقسنا
وطقوسنا. وربما كان يوما سببا في كل تقلباتنا الجوية .
تتزاحم الجمل في ذهني . كل تلك التي لم تتوقعيها .
وتمطر الذاكرة فجأة ..
فأبتلع قهوتي على عجل. وأشرع نافذتي لأهرب منك إلى السماء
الخريفية.. إلى الشجر والجسور والمارة.
إلى مدينة أصبحت مدينتي مرة أخرى . بعدما أخذت لي موعدا معها
لسبب
آخر هذه المرة .
ها هي ذي قسنطينة.. وها هو كل شيء أنت .
وها أنت تدخلين إليّ, من النافذة نفسها التي سبق أن دخلت منها
منذ
سنوات. مع صوت المآذن نفسه, وصوت الباعة, وخطى النساء الملتحفات بالسواد,
والأغاني القادمة من مذياع لا يتعب ...
"يا التفاحة .. يا التفاحة ... خبريني وعلاش الناس والعة بيك
..".
تستوقفني هذه الأغنية بسذاجتها .
تضعني وجهاً لوجه مع الوطن . تذكرني دون مجال للشك بأنني في
مدينه
عربيه فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس حلماً خرافياً .
هل التغزل بالفواكه ظاهره عربية؟ أم وحده التفاح الذي ما زال
يحمل
نكهة خطيئتنا الأولى, شهيّ لحدّّ التغنّي به، في أكثر من بلد عربي .
وماذا لو كنت تفاحه؟
لا لم تكوني تفاحه .
كنت المرأة التي أغرتني بأكل التفاح لا أكثر. كنت تمارسين معي
فطرياً لعبة حواء . ولم يكن بإمكاني أن أتنكر لأكثر من رجل يسكنني, لأكون
معك أنت بالذات في حماقة آدم !
-أهلا سي خالد..واش راك اليوم ..؟
يسلّم عليّ الجار, تسلّقت نظراته طوابق حزني. وفاجأه وقوفي
الصباحي,
خلف شرفة للذهول .
أتابع في نظرة غائبة, خطواته المتجهة نحو المسجد المجاور .
وما
يليها من خطوات, لمارة آخرين, بعضها كسلى, وأخرى عجلى, متجهة جميعها نحو
المكان نفسه .
الوطن كله ذاهب للصلاة .
والمذياع يمجد أكل التفاحة .
وأكثر من جهاز هوائي على السطوح, يقف مقابلا المآذن يرصد
القنوات
الأجنبية، التي تقدم لك كل ليله على شاشة تلفزيونك, أكثر من طريقه
_عصريه_
لأكل التفاح !
أكتفي بابتلاع ريقي فقط .
في الواقع لم أكن أحب الفواكه. ولا كان أمر التفاح يعنيني
بالتحديد
.
كنت أحبك أنت. وما ذنبي إن جاءني حبك في شكل خطيئة؟
كيف أنت.. يسألني جار ويمضي للصلاة .
فيجيب لساني بكلمات مقتضبة، ويمضي في السؤال عنك .
كيف أنا؟
أنا ما فعلته بي سيدتي.. فكيف أنتِ ؟
يا امرأة كساها حنيني جنوناً، وإذا بها تأخذ تدريجيا , ملامح
مدينه
وتضاريس وطن .
وإذا بي اسكنها في غفلة من الزمن, وكأنني اسكن غرف ذاكرتي
المغلقة
من سنين .
كيف حالك؟
يا شجرة توت تلبس الحداد وراثيا كل موسم .
يا قسنطينية الأثواب ....
يا قسنطينية الحب ... والأفراح والأحزان والأحباب .. أجيبي
أين
تكونين الآن؟ .
ها هي ذي قسنطينه ...
باردة الأطراف والأقدام. محمومة الشفاه, مجنونة الأطوار .
ها هي ذي .. كم تشبهينها اليوم أيضا ... لو تدرين !
دعيني أغلق النافذة!.
كان مارسيل بانيول يقول:
"تعوّد على اعتبار الأشياء العادية .. أشياء يمكن أن تحدث
أيضاً " .
أليس الموت في النهاية شيئا عاديا. تماما كالميلاد, والحب,
والزاج,
والمرض, والشيخوخة, والغربة والجنون, وأشياء أخرى ؟
فما أطول قائمة الأشياء العادية التي نتوقعها فوق العادة, حتى
تحدث.
والتي نعتقد أنها لا تحدث سوى للآخرين, وأن الحياة لسبب أو لآخر ستوفر
علينا كثيرا منها, حتى نجد أنفسنا يوما أمامها .
عندما ابحث في حياتي اليوم, أجد أن لقائي بك هو الشيء الوحيد
الخارق
للعادة حقاً. الشيء الوحيد الذي لم أكن لأتنبأ به، أو أتوقع عواقبه عليّ.
لأنَّني كنت اجهل وقتها أن الأشياء غير العادية, قد تجر معها أيضا كثيرا
من
الأشياء العادية .
ورغم ذلك ....
ما زلت أتساءل بعد كل هذه السنوات, أين أضع حبك اليوم ؟
أفي خانة الأشياء العادية التي قد تحدث لنا يوما كأية وعكه
صحية أو
زلة قدم.. أو نوبة جنون؟
أم .. أضعه حيث بدأ يوماً؟
كشيء خارق للعادة, كهدية من كوكب, لم يتوقع وجوده الفلكيون.
أو
زلزال لم تتنبأ به أية أجهزة للهزات الأرضية .
أكنتِ زلة قدم .. أم زلة قدر ؟.
أقلّب جريدة الصباح بحثا عن أجوبة مقنعه لحدث "عادي" غيّر
مسار
حياتي وجاء بي إلى هنا .
أتصفح تعاستنا بعد كل هذه الأعوام , فيعلق الوطن حبراً أسود
بيدي .
هناك صحف يجب أن تغسل يديك إن تصفحتها وإن كان ليس للسبب نفسه
في كل
مرة. فهنالك واحده تترك حبرها عليك .. وأخرى أكثر تألقا تنقل عفونتها
إليك
.
ألأنّ الجرائد تشبه دائما أصحابها, تبدو لي جرائدنا وكأنها
تستيقظ
كل يوم مثلنا, بملامح متعبه وبوجه غير صباحي غسلته على عجل، ونزلت به إلى
الشارع. هكذا دون أن تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, أو وضع ربطة عنق
مناسبة.. أو إغرائنا بابتسامة .
25 أكتوبر 1988 .
عناوين كبرى.. كثير من الحبر الأسود. كثير من الدم. وقليل من
الحياء
.
هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة الأولى.. ببدلة جديدة كل مره
.
هنالك جرائد.. تبيعك نفس الأكاذيب بطريقة أقل ذكاء كل مرّة
....
وهنالك أخرى، تبيعك تذكرة للهروب من الوطن.. لا غير .
وما دام ذلك لم يعد ممكنا, فلأغلق الجريدة إذن.. ولأذهب لغسل
يدي .
آخر مره استوقفتني فيها صحيفة جزائرية, كان ذلك منذ شهرين
تقريبا.
عندما كنت أتصفح عن طريق المصادفة, وإذا بصورتك تفاجئني على نصف صفحه
بأكملها, مرفقه بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب جديد لك .
يومها تسمَََََّر نظري أمام ذلك الإطار الذي كان يحتويك.
وعبثا رحت
أفكّ رموز كلامك . كنت أقرأك مرتبكاً، متلعثماً, على عجل. وكأنني أنا
الذي
كنت أتحدث إليك عني, ولست أنت التي كنت تتحدثين للآخرين, عن قصة ربما لم
تكن قصتنا .
أي موعد عجيب كان موعدنا ذلك اليوم! كيف لم أتوقع بعد تلك
السنوات
أن تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين, في مجلة لا اقرأها عادة .
إنّه قانون الحماقات، أليس كذلك؟ أن أشتري مصادفة مجلة لم
أتعوّد
شراءها، فقط لأقلب حياتي رأساً على عقبّ
وأين العجب؟
ألم تكوني امرأة من ورق. تحب وتكره على ورق. وتهجر وتعود على
ورق.
وتقتل وتحيي بجرّة قلم.
فكيف لا أرتبك وأنا أقرأك. وكيف لا تعود تلك الرعشة المكهربة
لتسري
في جسدي، وتزيد من خفقان قلبي، وكأنني كنت أمامك، ولست أمام صورة لك.
تساءلت كثيراً بعدها، وأنا أعود بين الحين والآخر لتلك
الصورة، كيف
عدتِ هكذا لتتربصي بي، أنا الذي تحاشيت كل الطرق المؤدية إليك؟
كيف عدت.. بعدما كاد الجرح أن يلتئم. وكاد القلب المؤثث
بذكراك أن
يفرغ منك شيئاً فشيئاً وأنت تجمعين حقائب الحبّ، وتمضين فجأة لتسكني
قلباً
آخر.
غادرت قلبي إذن..
كما يغادر سائح مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كلّ شيء
موقوت
فيها مسبقاً، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مسبقاً، حتى المعالم السياحية
التي سيزورها، واسم المسرحية التي سيشاهدها، وعنوان المحلات التي سيشتري
منها هدايا للذكرى.
فهل كانت رحلتك مضجرة إلى هذا الحد؟
ها أنا أمام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكأنني أمامك.
تفاجئني تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان شالاً يلف
وحشة
ليلي.. ماذا تراك فعلت به؟
أتوقف طويلاً عند عينيك. أبحث فيهما عن ذكرى هزيمتي الأولى
أمامك.
ذات يوم.. لم يكن أجمل من عينيك سوى عينيك. فما أشقاني وما
أسعدني
بهما!
هل تغيرت عيناك أيضاً.. أم أن نظرتي هي التي تغيرت؟ أواصل
البحث في
وجهك عن بصمات جنوني السابق. أكاد لا أعرف شفاهك ولا ابتسامتك وحمرتك
الجديدة.
كيف حدث يوماً.. أن وجدت فيك شبهاً بأمي. كيف تصورتك تلبسين
ثوبها
العنابي، وتعجنين بهذه الأيدي ذات الأظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة
التي افتقدت مذاقها منذ سنين؟
أيّ جنون كان لك.. وأية حماقة!
هل غيّر الزواج حقاً ملامحك وضحكتك الطفولية، هل غيّر ذاكرتك
أيضاً،
ومذاق شفاهك وسمرتك الغجرية؟
وهل أنساك ذلك "النبي المفلس" الذي سرقوا منه الوصايا العشر
وهو في
طريقه إليك.. فجاءك بالوصية الحادية عشرة فقط.
ها أنت ذي أمامي، تلبسين ثوب الردّة. لقد اخترت طريقاً آخر.
ولبست
وجهاً آخر لم أعد أعرفه. وجهاً كذلك الذي نصادفه في المجلات والإعلانات،
لتلك النساء الواجهة، المعدات مسبقاً لبيع شيء ما، قد يكون معجون أسنان،
أو
مرهماً ضد التجاعيد.
أم تراك لبست هذا القناع، فقط لتروّجي لبضاعة في شكل كتاب،
أسميتها
"منعطف النسيان" بضاعة قد تكون قصتي معك.. وذاكرة جرحي؟
وقد تكون آخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, دون أن تتركي
بصماتك على عنقي .
يومها تذكرت حديثاً قديماً لنا . عندما سألتك مرة لماذا
اخترتِ
الرواية بالذات. وإذا بجوابك يدهشني .
قلت يومها بابتسامة لم أدرك نسبة الصدق فيها من نسبة التحايل:
" كان لا بد أن أضع شيئا من الترتيب داخلي.. وأتخلص من بعض
الأثاث
القديم . إنَّ أعماقنا أيضا في حاجة إلى نفض كأيّ بيت نسكنه ولا يمكن أن
أبقي نوافذي مغلقه هكذا على أكثر من جثة ..
إننا نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير, وننتهي من الأشخاص
الذين
أصبح وجودهم عبئاً على حياتنا. فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم... وامتلأنا
بهواء نظيف ..." .
وأضفت بعد شيء من الصمت:
" في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة
ما.
وربما تجاه شخص ما, على مرأى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري أنَّ تلك
الكلمة الرصاصة كانت موجّهة إليه
والروايات الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, لا بد أن تسحب من
أصحابها
رخصة حمل القلم, بحجة أنهم لا يحسنون استعمال الكلمات, وقد يقتلون خطأ
بها
أيّ احد .. بمن في ذلك أنفسهم , بعدما يكونون قد قتلوا القراء ... ضجراً
!".
كيف لم تثر نزعتك الساديّة شكوكي يومها .. وكيف لم أتوقع كل
جرائمك
التي تلت ذلك اليوم, والتي جربت فيها أسلحتك الأخرى؟
لم أكن أتوقع يومها انك قد توجهين يوما رصاصك نحوي .
ولذا ضحكت لكلامك, وربما بدأ يومها انبهاري الآخر بك. فنحن لا
نقاوم, في هذه الحالات , جنون الإعجاب بقاتلنا !
ورغم ذلك أبديت لك دهشتي . قلت :
_ كنت اعتقد أن الرواية طريقه الكاتب في أن يعيش مرة ثانيه
قصه
أحبها.. وطريقته في منح الخلود لمن أحب .
وكأنّ كلامي فاجأك فقلت وكأنك تكتشفين شيئا لم تحسبي له
حسابا:
- وربما كان صحيحا أيضا, فنحن في النهاية لا نقتل سوى من
أحببنا.
ونمنحهم تعويضا عن ذلك خلودا أدبيا . إنها صفقه عادلة . أليس كذلك؟!
عادله ؟
من يناقش الطغاة في عدلهم أو ظلمهم؟ ومن يناقش نيرون يوم احرق
روما
حباً لها, وعشقاً لشهوة اللهب . وأنت, أما كنت مثله امرأة تحترف العشق
والحرائق بالتساوي؟
أكنت لحظتها تتنبّأين بنهايتي القريبة، وتواسينني مسبقا على
فجيعتي...
أم كنت تتلاعبين بالكلمات كعادتك, و وتتفرجين على وقعها عليّ,
وتسعدين سرّاً باندهاشي الدائم أمامك, وانبهاري بقدرتك المذهلة, في خلق
لغة
على قياس تناقضك .
كل الاحتمالات كانت ممكنه ...
فربما كنت أنا ضحية روايتك هذه, والجثة التي حكمت عليها
بالخلود,
وقررت أن تحنطيها بالكلمات... كالعادة.
و ربما كنت ضحية وهمي فقط, ومراوغتك التي تشبه الصدق. فوحدك
تعرفين
في النهاية الجواب على كل تلك الأسئلة التي ظلت تطاردني, بعناد الذي يبحث
عن الحقيقة دون جدوى .
متى كتبتِ ذلك الكتاب؟
أقبل زواجك أم بعده؟ أقبل رحيل زياد .. أم بعده؟ أكتبته عني
.. أم
كتبته عنه؟ أكتبته لتقتليني به.. أم لتحييه هو ؟
لم لتنتهي منّا معاً، وتقتلينا معاً بكتاب واحد... كما تركتنا
معاً
من أجل رجل واحد ؟
عندما قرأت ذلك الخبر منذ شهرين,. لم أتوقع إطلاقاًً أن تعودي
فجأة
بذلك الحضور الملحِّ, ليصبح كتابك محور تفكيري, ودائرة مغلقه أدور فيها
وحدي .
فلا كان ممكنا يومها بعد كل الذي حدث, أن اذهب للبحث عنه في
المكتبات , لأشتري قصتي من بائع مقابل ورقه نقدية. ولا كان ممكنا أيضا أن
أتجاهله وأواصل حياتي وكأنني لم اسمع به , وكأن أمره لا يعنيني تماما .
الم أكن متحرقا إلى قراءة بقية القصة؟
قصتك التي انتهت في غفلة مني , دون أن أعرف فصولها الأخيرة.
تلك
التي كنت شاهدها الغائب, بعدما كنت شاهدها الأول. أنا الذي كنت,. حسب
قانون
الحماقات نفسه. الشاهد والشهيد دائما في قصة لم يكن فيها من مكان سوى
لبطل
واحد .
ها هوذا كتابك أمامي.. لم يعد بإمكاني اليوم أن أقرأه. فتركته
هنا
على طاولتي مغلقا كلغز, يتربص بي كقنبلة موقوتة, أستعين بحضوره الصامت
لتفجير منجم الكلمات داخلي ... واستفزاز الذاكرة .
كل شيء فيه يستفزني اليوم .. عنوانه الذي اخترته بمراوغه
واضحة..
وابتسامتك التي تتجاهل حزني . ونظرتك المحايدة التي تعاملني وكأنني
قارىء,
لا يعرف الكثير عنك .
كل شيء.. حتى اسمك .
وربما كان اسمك الأكثر استفزازا لي, فهو مازال يقفز إلى
الذاكرة قبل
أن تقفز حروفه المميزة إلى العين .
اسمك الذي .. لا يُقرأ وإنما يُسمع كموسيقى تُعزف على آلة
واحدة من
أجل مستمع واحد.
كيف لي أن أقرأه بحياد, وهو فصل من قصة مدهشه كتبتها الصدفة,
وكتبها
قدرنا الذي تقاطع يوما؟
يقول تعليق على ظهر كتابك إنه حدث أدبي .
وأقول وأنا أضع عليه حزمة من الأوراق التي سودتها في لحظة
هذيان..
" حان لك أن تكتب.. أو تصمت إلى الأبد أيها الرجل . فما أعجب
ما
يحدث هذه الأيام !"
وفجأة.. يحسم البرد الموقف, ويزحف ليل قسنطينة نحوي من نافذة
للوحشة. فأعيد للقلم غطاءه, وانزلق بدوري تحت غطاء الوحدة .
مذ أدركت أن لكل مدينةٍ الليل الذي تستحق, الليل الذي يشبهها
والذي
وحده يفضحها, ويعري في العتمة ما تخفيه في النهار, قررت أن أتحاشى النظر
ليلا من هذه النافذة .
كل المدن تمارس التعري ليلا دون علمها, وتفضح للغرباء أسرارها
, حتى
عندما لا تقول شيئا .
وحتى عندما توصد أبوابها.
ولأن المدن كالنساء, يحدث لبعضهن أن يجعلننا نستعجل قدوم
الصباح.
ولكن ...
"soirs,
soirs.que de soirs pour un seul matin
.."
كيف تذكرت هذا البيت للشاعر "هنري ميشو" ورحت اردده على نفسي
بأكثر
من لغة ..
"أمسيات .. أمسيات كم من مساء لصباح واحد "
كيف تذكرته, ومتى تراني حفظته؟ .. تراني كنت أتوقع منذ سنين
أمسيات
بائسة كهذه, لن يكون لها سوى صباح واحد ؟
أنقب بعض الشيء في ذاكرتي عن القصيدة التي اخذ منها هذا
البيت, وإذا
بعنوانها "الشيخوخة" ..
فيخيفني اكتشافي فجأة وكأنني أكتشف معه ملامح وجهي الجديدة.
فهل
تزحف الشيخوخة هكذا نحونا حقاً بليل طويل واحد. وبعتمة داخليه تجعلنا
نتمهل
في كل شيء, ونسير ببطء, دون اتجاه محدد؟
أيكون الملل والضياع والرتابة جزءا من مواصفات الشيخوخة أم من
مواصفات هذه المدينة ؟
تراني أنا الذي ادخل الشخوخة.. أم ترى الوطن بأكمله هو الذي
يدخل
اليوم سن اليأس الجماعي؟
أليس هو الذي يملك هذه القدرة الخارقة, على جعلنا نكبر ونهرم
في
بضعة اشهر, وأحيانا في بضعة أسابيع فقط ؟
قبل اليوم لم أكن اشعر بثقل السنين, كان حبّك شبابي, وكان
مرسمي
طاقتي الشمسية التي لا تنضب, وكانت باريس مدينه أنيقة, يخجل الواحد أن
يهمل
مظهره في حضرتها . ولكنهم طاردوني حتى مربع غربتي, وأطفأوا شعلة جنوني
...
وجاؤوا بي حتى هنا .
الآن نحن نقف جميعا على بركان الوطن الذي ينفجر , ولم يعد في
وسعنا
, إلا أن نتوحد مع الجمر المتطاير من فوهته, وننسى نارنا الصغيرة...
اليوم
لا شيء يستحق كل تلك الأناقة واللياقة. الوطن نفسه أصبح لا يخجل أن يبدو
أمامنا في وضع غير لائق !
لا أصعب من أن تبدأ الكتابة, في العمر الذي يكون فيه الآخرون
قد
انتهوا من قول كل شيء.
الكتابة ما بعد الخمسين لأول مرة ... شيء شهواني وجنوني شبيه
بعودة
المراهقة.
شيء مثير وأحمق , شبيه بعلاقة حب بين رجل في سن اليأس, وريشة
حبر
بكر .
الأول مرتبك وعلى عجل... والثانية عذراء لا يرويها حبر العالم
!
سأعتبر إذن ما كتبته حتى الآن, مجرد استعداد للكتابة فقط,
وفائض
شهوة ... لهذه الأوراق التي حملت منذ سنين بملئها .
ربما غدا ابدأ الكتابة حقا .
أحب دائما أن ترتبط الأشياء الهامة في حياتي بتاريخ ما ....
يكون
غمزة لذاكره أخرى .
أغرتني هذه الفكرة من جديد, وأنا استمع إلى الأخبار هذا
المساء
واكتشف، أنا الذي فقدت علاقتي بالزمن, أن غدا سيكون أول نوفمبر ... فهل
يمكن لي ألا أختار تاريخا كهذا, لأبدأ به هذا الكتاب ؟
غدا ستكون قد مرت 34 سنه على انطلاق الرصاصة الأولى لحرب
التحرير,
ويكون قد مر على وجودي هنا ثلاثة أسابيع, ومثل ذلك من الزمن على سقوط آخر
دفعه من الشهداء ...
كان احدهم ذلك الذي حضرت لأشيّعه بنفسي وادفنه هنا.
بين أول رصاصه , وآخر رصاصه, تغيرت الصدور, تغيرت الأهداف ..
وتغير
الوطن .
ولذا سيكون الغد يوما للحزن مدفوع الأجر مسبقا .
لن يكون هناك من استعراض عسكري, ولا من استقبالات, ولا من
تبادل
تهاني رسميه ....
سيكتفون بتبادل التهم ... ونكتفي بزيارة المقابر .
غدا لن ازور ذلك القبر . لا أريد أن أتقاسم حزني مع الوطن.
أفضل تواطؤ الورق, وكبرياء صمته .
كل شيء يستفزني الليلة.. واشعر أنني قد اكتب أخيرا شيئا
مدهشا, لن
أمزقه كالعادة..
فما أوجع هذه الصدفة التي تعود بي , بعد كل هذه السنوات إلى
هنا,
للمكان نفسه , لأجد جثة من أحبهم في انتظاري, بتوقيت الذاكرة الأولى .
يستيقظ الماضي الليلة داخلي ... مربكا. يستدرجني إلى دهاليز
الذاكرة
.
فأحاول أن أقاومه, ولكن, هل يمكن لي أن أقاوم ذاكرتي هذا
المساء ؟
أغلق باب غرفتي واشرع النافذة ..
أحاول أن أرى شيئا آخر غير نفسي. وإذا النافذة تطل علي...
تمتد أمامي غابات الغاز والبلوط, وتزحف نحوي قسنطينه ملتحفه
ملاءتها
القديمة, وكل تلك الأدغال والجروف والممرات السرية التي كنت يوما اعرفها
والتي كانت تحيط بهذه المدينة كحزام أمان, فتوصلك مسالكها المتشعبة,
وغاباتها الكثيفة, إلى القواعد السرية للمجاهدين, وكأنها تشرح لك شجرة
بعد
شجره, ومغارة بعد أخرى .
إنّ كل الطرق في هذه المدينة العربية العريقة, تؤدي إلى
الصمود.
وإنّ كل الغابات والصخور هنا قد سبقتك في الانخراط في صفوف
الثورة .
هنالك مدن لا تختار قدرها ...
فقد حكم عليها التاريخ, كما حكمت عليها الجغرافيا, ألا تستسلم
...
ولذا لا يملك أبناؤها الخيار دائما .
فهل عجبٌ أن أشبه هذه المدينة حد التطرف ؟
ذات يوم منذ أكثر من ثلاثين سنه سلكت هذه الطرق, واخترت أن
تكون تلك
الجبال بيتي ومدرستي السرية التي أتعلم فيها المادة الوحيدة الممنوعة من
التدريس. وكنت ادري انه ليس من بين خريجيها من دفة ثالثه, وان قدري سيكون
مختصرا بين المساحة الفاصلة بين الحرية .. والموت .
ذلك الموت الذي اخترنا له اسما آخر أكثر إغراءً، لنذهب دون
خوف
وربما بشهوة سريه, وكأننا نذهب لشيء آخر غير حتفنا .
لماذا نسينا يومها أن نطلق على الحرية أيضا أكثر من اسم؟ وكيف
اختصرنا منذ البدء حريتنا.... في مفهومها الأول ؟
كان الموت يومها يمشي إلى جوارنا, وينام ويأخذ كسرته معنا على
عجل.
تماما مثل الشوق والصبر والإيمان .. والسعادة المبهمة التي لا تفارقنا
كان الموت يمشي ويتنفس معنا.. وكانت الأيام تعود قاسيه دائما,
لا
تختلف عما سبقتها سوى بعدد شهدائها, الذين لم يكن يتوقع احد موتهم على
الغالب.. أو لم يكن يتصور لسبب أو لآخر, أن تكون نهايتهم, هم بالذات,
قريبه
إلى ذلك الحد .. ومفجعه إلى ذلك الحد. وكان ذلك منطق الموت الذي لم أكن
قد
أدركته بعد .
ما زلت اذكرهم أولئك الذين تعودنا بعد ذلك أن نتحدث عنهم
بالجملة.
وكأنَّ الجمع في هذه الحالة بالذات، ليس اختصارا للذاكرة , وإنما لحقهم
علينا
لم يكونوا شهداء.. كان كل واحد منهم شهيدا على حده. كان هناك
من
استشهد في أول معركة, وكأنه جاء خصيصا للشهادة .
وهناك من سقط قبل زيارته المسروقة إلى أهله بيوم واحد, بعدما
قضى
عدة أسابيع في دراسة تفاصيلها, والإعداد لها .
وهناك من تزوج وعاد .. ليموت متزوجا .
وهناك من كان يحلم أن يعود يوما لكي يتزوج ... ولم يعد.
في الحروب, ليس الذين يموتون هم التعساء دائما, إنّ الأتعس هم
أولئك
الذين يتركونهم خلفهم ثكالى, يتامى, ومعطوبي أحلام .
اكتشفت هذه الحقيقة باكراً، شهيداً بعد آخر، وقصة بعد أخرى..
واكتشفت في المناسبة نفسها، أنني ربما كنت الوحيد الذي لم
يترك خلفه
سوى قبر طريّ لأم ماتت مرضاً وقهراً، وأخٍ فريد يصغرني بسنوات، وأب مشغول
بمطالب عروسه الصغيرة.
لقد كان ذلك المثل الشعبي على حقّ "إن الذي مات أبوه لم
يتيتَّم..
وحده الذي ماتت أمه يتيم".
وكنت يتيماً، وكنت أعي ذلك بعمق في كل لحظة. فالجوع إلى
الحنان،
شعور مخيف وموجع، يظل ينخر فيك من الداخل ويلازمك حتى يأتي عليك بطريقة
وبطريقة أو بأخرى.
أكان التحاقي بالجبهة آنذاك محاولة غير معلنة للبحث عن موت
أجمل
خارج تلك الأحاسيس المرضية التي كانت تملأني تدريجياً حقداً على كل شيء؟
كانت الثورة تدخل عامها الثاني، ويتمي يدخل شهره الثالث، ولم
أعد
أذكر الآن بالتحديد، في أية لحظة بالذات أخذ الوطن ملامح الأمومة،
وأعطاني
ما لم أتوقّعه من الحنان الغامض، والانتماء المتطرِّف له.
وربما كان لاختفاء "سي الطاهر" من حينا بسيدي المبروك منذ
بضعة
أشهر، دور في حسم القضية، واستعجالي في أخذ ذلك القرار المفاجئ. فلم يكن
يخفى على أحد أنه انتقل إلى مكان سري في الجبال المحيطة بقسنطينة ليؤسس
من
هناك مع آخرين إحدى الخلايا الأولى للكفاح المسلح.
من أين عاد اسم "سي طاهر" الليلة ليزيد من ارتباكي، ومن منكما
استدرجني للآخر؟.
من أين عاد.. وهل غاب حقاً، وعلى بعد شارعين مني شارع مازال
يحمل
اسمه؟
هناك شيء اسمه "سلطة الاسم".
وهناك أسماء عندما تذكرها، تكاد تصلح من جلستك، وتطفئ
سيجارتك. تكاد
تتحدث عنها وكأنك تتحدث إليها بنفس تلك الهيبة وذلك الانبهار الأول.
ولذا .. ظلّ لاسم (سي طاهر) هيبته عندي. لم تقتله العادة ولا
المعاشرة، ولم تحوله تجربة السجن المشترك، ولا سنوات النضال، إلى اسم
عاديّ
لصديق أو لجار. فالرموز تعرف دائماً كيف تحيط نفسها بذلك الحاجز
اللامرئي،
الذي يفصل بين العادي والاستثنائي، والممكن والمستحيل، في كل شيء.
ها أنذا أذكره في ليلة لم أحجزها له..
وبينما أسحب نفساً من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت المآذن معلناً
صلاة
الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء طفل أيقظ صوته أنحاء كل البيت..
فأحسد المآذن، وأحسد الأطفال الرضّع، لأنهم يملكون وحدهم حق
الصراخ
والقدرة عليه، قبل أن تروض الحياة حبالهم الصوتية، وتعلِّمهم الصمت.
لا أذكر من قال "يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلم النطق،
وتقضي
الأنظمة العربية بقية عمره في تعليمه الصمت!".
وكان يمكن للصمت أن يصبح نعمة في هذه الليلة بالذات، تماماً
كالنسيان. فالذاكرة في مناسبات كهذه لا تأتي بالتقسيط، وإنما تهجم عليك
شلالاً يجرفك إلى حيث لا تدري من المنحدرات.
وكيف لك لحظتها أن توقفها دون أن تصطدم بالصخور، وتتحطم في
زلّة
ذكرى؟
وها أنت ذا، تلهث خلفها لتلحق بماضٍ لم تغادره في الواقع،
وبذاكرة
تسكنها لأنها جسدك.
جسدك المشوه لا غير.
وتدري أنّ هناك من يلهثون الآن من منبر إلى آخر، بحجة أو
بأخرى،
ليدينوا تاريخاً كانوا طرفاً فيه. عساهم يلحقون بالموجة الجديدة، قبل أن
يجرفهم الطوفان. فلا تملك إلا أن تشفق عليهم.
ما أتعس أن يعيش الإنسان بثياب مبللة.. خارجاً لتوه من
مستنقع..
وألا يصمت قليلاً في انتظار أن تجف!
صامتاً يأتي (سي طاهر) الليلة.
صامتاً كما يأتي الشهداء.
صامتاً.. كعادته.
وها أنت ذا مرتبك أمامه كعادتك.
لقد كانت دائماً الخمس عشرة سنة التي تفصلكما، أكبر من عمر
السنوات.
كانت عمراً بحد ذاتها، ورمزاً بحد ذاتها، لرجل كان يجمع إلى جانب الفصاحة
التي كان يتميز بها كل من اختلط بجمعية العلماء، ودرس في قسنطينة، فصاحة
أخرى.. هي فصاحة الحضور.
كان (سي طاهر) يعرف متى يبتسم، ومتى يغضب. ويعرف كيف يتكلم،
ويعرف
أيضاً كيف يصمت. وكانت الهيبة لا تفارق وجهه ولا تلك الابتسامة الغامضة
التي كانت تعطي تفسيراً مختلفاً لملامحه كل مرة.
"إن الابتسامات فواصل ونقاط انقطاع.. وقليل من الناس أولئك
الذين ما
زالوا يتقنون وضع الفواصل والنقط في كلامهم".*
في سجن ( الكديا) كان موعدي النضالي الأول مع (سي طاهر). كان
موعداً
مشحوناً بالأحاسيس المتطرفة، وبدهشة الاعتقال الأول، بعنفوانه.. وبخوفه.
وكان (سي طاهر) الذي استدرجني إلى الثورة يوماً بعد آخر، يدري
أنه
مسؤول عن وجودي يومها هناك. وربما كان يشفق سراً على سنواتي الست عشرة،
على
طفولتي المبتورة، وعلى ( أمّا) التي كان يعرفها جيداً، ويعرف ما يمكن أن
تفعله بها تجربة اعتقالي الأول.
ولكنه كان يخفي عنّي كل شفقته تلك، مردداً لمن يريد سماعه:
"لقد
خلقت السجون للرجال".
وكان سجن (الكديا) وقتها، ككل سجون الشرق الجزائري يعاني فجأة
من
فائض رجولة، إثر مظاهرات 8 ماي 1945 التي قدّمت فيها قسنطينة وسطيف
وضواحيها أول عربون للثورة، متمثلاً في دفعة أولى من عدّة آلاف من
الشهداء
سقطوا في مظاهرة واحدة، وعشرات الآلاف من المساجين الذين ضاقت بهم
الزنزانات، مما جعل الفرنسيين يرتكبون أكبر حماقاتهم، وهو يجمعون لعدة
أشهر
بين السجناء السياسيين، وسجناء الحق العام، في زنزانات يجاوز أحياناً عدد
نزلائها العشرين معتقلاً.
وهكذا، جعلوا عدوى الثورة تنتقل إلى مساجين الحق العام الذين
وجدوا
فرصة للوعي السياسي، ولغسل شرفهم بالانضمام إلى الثورة التي استشهد بعد
ذلك
من أجلها الكثير منهم. ومازال بعضهم حتى الآن على قيد الحياة، يعيش
بتكريم
ووجاهة القادة التاريخيين لحرب التحرير، بعدما تكفّل التاريخ بإعادة سجلّ
سوابقهم العدلية.. لعذريته الأولى. بينما وجد بعض السجناء السياسيين _ في
تلك الحماقة الاستعمارية _ فرصة للتعرف على بعض، ووقتاً كافياً للتشاور
والتفكير في أمور الوطن.. والتخطيط للمرحلة القادمة.
اليوم.. عندما أذكر تلك التجربة، تبدو لي لكثافتها ودهشتها،
وكأنها
أطول مما كانت. رغم أنها لم تدم بالنسبة لي سوى ستة أشهر فقط. قضيتها
هناك
قبل أن يطلق سراحي أنا واثنين آخرين لصغر سننا ولأنه كان هناك من يهمهم
أمرهم، أكثر منَّا.
وهكذا عدت إلى ثانوية قسنطينة، بعدما أخلفت هاماً دراسياً،
لأجد
البرنامج نفسه وكتب الفلسفة نفسها والأدب الفرنسي في انتظاري..
وحدهم بعض رفاق الدارسة كانوا ما يزالون ضمن المتغيّبين، بين
مساجين
وشهداء.
أغلبهم طلبة في الصفوف العليا التي كان مقرراً أن تتخرج منها
أول
دفعة من المثقفين والموظفين الجزائريين المفرنسين.
وكان ذلك شرفهم، أولئك الذين راهن البعض على خيانتهم، فقط
لأنهم
اختاروا الثانويات والثقافة الفرنسية، في مدينة لا يمكن لأحد فيها أن
يتجاهل سلطة اللغة العربية، وهيبتها في القلوب والذاكرة.
فهل عجب أن يكون من بين الذين سجنوا وعذّبوا بعد تلك
المظاهرات،
الكثير منهم، هم الذين كانوا بحكم ثقافتهم الغربية يتمتعون بوعي سياسي
مبكر، وبفائض وطنية.. وفائض أحلام.
والذين أدركوا، والحرب العالمية تنتهي لصالح فرنسا والحلفاء،
أنّ
فرنسا استعملت الجزائريين، ليخوضوا حرباً لم تكن حربهم، وأنهم دفعوا آلاف
الموتى في معارك لا تعنيهم، ليعودوا بعد ذلك إلى عبوديتهم.
كان في مصادفة وجودي مع (سي الطاهر) في الزنزانة نفسها شيء
أسطوري
بحد ذاته، وتجربة نضالية ظلَت تلاحقني لسنوات بكل تفاصيلها، وربما كان
لها
بعد لك أثر في تغيّر قدري. فهناك رجال عندما تلتقي بهم تكون قد التقيت
بقدرك.
كان (سي الطاهر) استثنائياً في كلِّ شيء، وكأنه كان يعد نفسه
منذ
البدء، ليكون أكثر من رجل.
لقد خلق ليكون قائداً. كان فيه شيء من سلالة طارق بن زياد،
والأمير
عبد الطارق، وأولئك الذين يمكنهم أن يغيروا التاريخ بخطبة واحدة.
وكان الفرنسيون الذين عذّبوه وسجنوه لمدة ثلاث سنوات يعرفون
ذلك
جيداً. ولكنهم كانوا يجهلون أنّ (سي الطاهر) سيأخذ بثأره منهم بعد ذلك
بسنوات، ويصبح الرأس المطلوب بعد كل عملية يقوم بها المجاهدون في الشرق
الجزائري.
أيّ صدفة.. أن يعود القدر بعد عشر سنوات تماماً، ليضعني مع
(سي
طاهر) في تجربة كفاحية مسلحة هذه المرّة!
سنة 1955.. وفي شهر أيلول بالذات، التحقت بالجبهة.
كان رفاقي يبدأون سنة دراسية ستكون الحاسمة، وكنت في عامي
الخامس
والعشرين أبدأ حياتي الأخرى.
أذكر أنَّ استقبال (سي طاهر) لي فاجأني وقتها. لم يسألني عن
أيّة
تفاصيل خاصة عن حياتي أو دراستي. لم يسألني حتى كيف أخذت قرار التحاقي
بالجبهة، ولا أيّ طريق سلكت لأصل إليه. ظلَّ يتأملني قبل أ، يحتضنني بشوق
وكأنَّه كان ينتظرني هناك منذ سنة.
ثم قال:
- جئت..!
وأجبته بفرح وبحزن غامض معاً:
- جئت!
كان ( سي الطاهر) هكذا أحياناً، يكون موجزاً حتَّى في فرحته؛
فكنت
موجزاً معه في حزني أيضاً.
سألني بعدها عن أخبار الأهل، وأخبار ( أمّا) بالتحديد، فأجبته
أنها
توفيت منذ ثلاثة أشهر. وأعتقد أنه فهم كلّ شيء، فقد قال وهو يربت على
كتفي،
وشيء شبيه بالدمع يلمع في عينيه:
- رحمها الله، لقد تعذبت كثيراً.
ثم ذهب في تفكيره بعيداً إلى حيث لا أدري..
بعدها حسدت تلك الدمعة المفاجئة في عينيه، والتي رفع بها أمي
إلى
مرتبة الشهداء. فلم يحدث لي أن رأيت (سي الطاهر) يبكي سوى الشهداء من
رجاله. وتمنيت طويلاً بعد ذلك أن أمدد جثماناً بين يديه، لأتمتع ولو بعد
موتي بدمعة مكابرة في عينيه.
ألكلّ هذا تقلصت عائلتي فجأة في شخصه، ورحت أتفانى في إثبات
بطولتي
له، وكأنني أريد أن أجعله شاهداً على رجولتي أ, على موتي؛ شاهداً على
أنني
لم أعد أنتسب إلى أحد غير هذا الوطن، وأنني لم أترك خلفي سوى قبر لامرأة
كانت أمي، وأخٍ يصغرني اختار له أبي مسبقاً امرأة ستصبح أمه.
كنت ألقي بنفسي على الموت في كل مرّة، وكأنني أتحداه أو كأنني
أريد
بذلك أن يأخذني بدل رفاقي الذين تركوا خلفهم أولادهم وأهلهم ينتظرون
عودتهم.
وكنت كل مرة أعود أنا ويسقط آخرون، وكأن الموت قرر أن
يرفضني..
وكان (سي طاهر) بعد أكثر من معركة ناجحة اشتركت فيها، قد بدأ
تدريجياً يعتمد عليَّ في المهمات الصعبة، ويكلفني بالمهمات الأكثر خطورة،
تلك التي تتطلب مواجهة مباشرة مع العدو. ورفعني بعد سنتين إلى رتبة ملازم
لأتمكن من إدارة بعض المعارك وحدي، وأخذ القرارات العسكرية التي يقتضيها
كل
ظرف.
بدأت وقتها فقط أتحول على يد الثورة إلى رجل، وكأن الرتبة
التي كنت
أحملها قد منحتني شهادة بالشفاء من ذاكرتي.. وطفولتي.
وكنت آنذاك سعيداً وقد بلغت أخيراً تلك الطمأنينة النفسية
التي لا
تمنحنا إياها سوى راحة الضمير.
لم أكن أعي أنّ طموحاتي لا علاقة لها بالمكتوب وأنّ القدر كان
يتربص
بي في ذلك الوقت الذي كنت أعتقد فيه أن لا شيء بعد اليوم يمكن أن يعيدني
إلى حزني السابق.
وجاءت تلك المعركة الضارية التي دارت على مشارف "باتنة" لتقلب
يوماً
كل شيء..
فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين، وكنت فيها أنا من عداد الجرحى
بعدما
اخترقت ذراعي اليسرى رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة، وأنا أجد
نفسي
من ضمن الجرحى الذين يجب أن ينقلوا على وجه السرعة إلى الحدود التونسية
للعلاج. ولم يكن العلاج بالنسبة لي.. سوى بتر ذراعي اليسرى، لاستحالة
استئصال الرصاصتين. ولم يكن هناك من مجال للنقاش أو التردد. كان النقاش
فقط، حول الطرق الآمنة التي يمكن أن نسلكها حتى تونس، حيث كانت القواعد
الخلفية للمجاهدين.
وها أنذا أمام واقع آخر..
ها هو ذا القدر يطردني من ملجأي الوحيد، من الحياة والمعارك
الليلية، ويخرجني من السرية إلى الضوء، ليضعني أمام ساحة أخرى، ليست
للموت
وليست للحياة. ساحة للألم فقط.. وشرفة أتفرج منها على ما يحدث في ساحة
القتال. فلقد بدا واضحاً من كلام (سي طاهر) يومها، أنني قد لا أعود إلى
الجبهة مرّة ثانية.
في ذلك اليوم الأخير، حاول (سي طاهر) أن يحافظ على نبرته
الطبيعية،
وراح كما كان يودعني كل مرة قبل معركة جديدة. ولكن هذه المرة كان يدري
أنه
يعدّني لتحمل معركتي مع القدر.
غير أنه كان موجزاً على غير عادته، ربما.. لأنه ليس هناك من
تعليمات
خاصة تعطى في هذه الحالات.. وربما لأنه كان يتكبد يومها أكبر خسارة بشرية
ويفقد في معركة واحدة عشرة من خيرة رجاله بين جرحى وقتلي. وكان يدري،
والثورة مطوقة من كل جانب، قيمة كلّ مجاهد وحاجة الثورة إلى كل رجل على
حدة.
ولم أقل له شيئاً ذلك اليوم.. كنت أشعر، لسبب غامض، أنني
أصبحت
يتيماً مرة أخرى.
كانت دمعتان قد تجمدتا في عينيّ. كنت أنزف، وكان ألم ذراعي
ينتقل
تدريجياً إلى جسدي كله، ويستقر في حلقي غصة. غصّة الخيبة والألم.. والخوف
من المجهول.
كانت الأحداث تجري مسرعة أمامي، وقدري يأخذ منحىً جديداً بين
ساعة
وأخرى، ووحده صوت (سي طاهر) وهو يعطي تعليماته الأخيرة، كان يصل إليَّ
حيث
كان، ليصبح صلتي الوحيدة مع العالم.
وبرغم ذلك، مازلت أذكر تماماً حضوره الأخير، عندما جاء
يتفقدني قبل
سفري بساعة، ووضع ورقة صغيرة في جيبي وبعض الأوراق النقدية، وقال وهو
ينحني
عليّ وكأنه يودعني سراً:
"لقد قُدّر لك أن تصل إلى هناك.. أتمنى أن تذهب لزيارتهم حين
تشفى
وتسلّم هذا المبلغ إلى (أمّا) لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضاً أن
تقوم
بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت ذلك.. فقد يمر وقت طويل قبل أ، أتمكن
من
زيارتهم..".
وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئاً ليضيف شبه مرتبك وهو يلفظ ذلك
الاسم
لأول مرة..
".. لقد اخترت لها هذا لاسم.. سجلها متى استطعت ذلك وقبّلها
عني..
وسلّم كثيراً على (أمّا).."
كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعته وأنا في لحظة نزيف
بين
الموت والحياة، فتعلقت في غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محموم في لحظة هذيان
بكلمة..
كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه..
كما يتعلق غريق بحبال الحلم.
بين ألف الألم وميم المتعة كان اسمك.
تشطره حاء الحرقة.. ولام التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد
وسط
الحرائق الأولى، شعلة صغيرة في تلك الحرب. كيف لم أحذر اسماً يحل ضده
ويبدأ
بـ "أح" الألم واللذة معاً. كيف لم أحذر هذا الاسم المفرد _ الجمع كاسم
هذا
الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائماً ليقتسم!
بين الابتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلك الوصية:
"قبّلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي، ومن غرابة
المصادفات.
ثمَّ أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف النادرة التي
غلّفت
جملته تلك، هو الذي كان يريد أن يبدو أمامنا دائماً، رجلاً مهيباً لا
هموم
له سوى هموم الوطن، ولا أهل له غير رجاله..
لقد اعترف لي أنَّه رجل ضعيف؛ يحنّ ويشتاق وقد يبكي ولكن، في
حدود
الحياء، وسراً دائماً. فليس من حقّ الرموز أن تبكي شو